فصل: تفسير الآيات (11- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.سورة الرحمن:

.تفسير الآيات (1- 10):

{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)}
ولما ختم سبحانه القمر بعظيم الملك وبليغ القدرة، وكان الملك القادر لا يكمل ملكه إلا بالرحمة، وكانت رحمته لا تتم إلا بعمومها، قصر هذه السورة على تعداد نعمه على خلقه في الدارين، وذلك من آثار الملك، وفصل فيها ما أجمل في آخر القمر من مقر الأولياء والأعداء في الآخرة، وصدرها بالاسم الدال على عموم الرحمة براعة للاستهلال، وموازنة لما حصل بالملك والاقتدار من غاية التبرك والظهور والهيبة والرعب باسم هو مع أنه في غاية الغيب دال على أعظم الرجاء مفتتحاً لها بأعظم النعم وهو تعليم الذكر الذي هز ذوي الهمم العالية في القمر إلى الإقبال عليه بقوله: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} لأنه لما كان للعظمة الدالة عليها نون {يسرنا} التي هي عماد الملك نظران: نظر الكبرياء والجبروت يقتضي أن يتكلم بما يعجز خلقه من كل جهة في الفهم والحفظ والإتيان بمثله وكل معنى من معانيه، ونظر الإكرام والرحمة، وكانت رحمته سابقة لغضبه نظر بها لخلقه لاسيما هذه الأمة المرحومة فيسر لها الذكر تحقيقاً للرحمة بعد أن أبقى من آثار الجبروت الإعجاز عن النظر، ومن الإعجاز من الفهم الحروف المقطعة أوائل السور، ومنع المتعنت من أن يقول: إنه لا معاني لها بأن فهم بعض الأصفياء بعض أسرارها، فقال جواباً لمن كأنه قال: من هذا المليك المقتدر، فقيل: {الرحمان} أي العام الرحمة، قال ابن برجان: وهو ظاهر اسمه الله، وباطن اسمه الرب، جعل هذه الأسماء الثلاثة في ظهورها مقام الذات يخبر بها عنه وحجاباً بينه وبين خلقه، يوصل بها الخطاب منه إليهم، ثم أسماؤه الظاهرة مبينة لهذه الأسماء الثلاثة- انتهى.
ومن مقتضى اسمه {الرحمن} انبثت جميع النعم، ولذا ذكر في هذه السورة أمهات النعم في الدارين.
ولما كان لا شيء من الرحمة أبلغ ولا أدل على القدرة من إيصال بعض صفات الخالق إلى المخلوق نوع إيصال ليتخلقوا به بحسب ما يمكنهم منه فيحصلوا على الحياة الأبدية والسعادة السرمدية قال: {علم القرآن} أي المرئي المشهود بالكتابة والمتلو المسموع الجامع لكل خير، الفارق بين كل لبس، وكان القياس يقتضي أن لا يعلم المسموع أحد لأنه صفة من صفاته، وصفاته في العظم كذاته، وذاته غيب محض، لأن الخلق أحقر من أن يحيطوا به علماً:
وأين الثريا من يد المتناول

فدل تعليمه القرآن على أنه يقدر أن يعلم ما أراد من أراد {وعلم آدم الاسماء كلها} [البقرة: 31] ولا يخفى ما في تقديمه على جميع النعم من المناسبة لأن أجل النعم نعمة الدين التي تتبعها نعمة الدنيا والآخرة، وهو أعلى مراتب، فهو سنام الكتب السماوية وعمادها ومصداقها والعبار عليها، وفائدتها الإيصال إلى مقعد الصدق المتقدم لأنه بين ما يرضي الله ليعمل به وما يسخطه ليجتنب.
وقال الإمام جعفر بن الزبير: من المعلوم أن الكتاب العزيز وإن كانت آية كلها معجزة باهرة وسورة في جليل النظم وبديع التأليف قاطعة بالخصوم قاهرة، فبعضها أوضح من بعض في تبين إعجازها، وتظاهر بلاغتها وإيجازها: ألا ترى إلى تسارع الأفهام إلى الحصول على بلاغة آيات وسور من أول وهلة دون كبير تأمل كقوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي} [هود: 44] وقوله: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} [الحجر: 94]، الآيات، لا يتوقف في باهر إعجازها إلا من طبع الله على قلبه أو سد دونه باب الفهم بأنى له بر لوجه وقوعه، وسورة القمر من هذا النمط، ألا ترى اختصار القصص فيه مع حصول أطرافها وتوفية أغراضها، وما جرى مع كل قصة من الزجر والوعظ والتنبيه والإعذار، ولولا أني لم أقصد التعليق ما بنيته عليه من ترتيب السور لأوضحت ما أشرت إليه مما لم أسبق إليه، ولعل الله سبحانه ييسر ذلك فيما باليد من التفسير نفع الله به ويسر فيه، فلما انطوت هذه السورة على ما ذكرنا وبان فيها عظيم الرحمة في تكرر القصص وشفع العظات، وظهرت حجة الله على الخلق، وكان ذلك من أعظم ألطافه تعالى لمن يسره لتدبر القرآن ووفقه لفهمه واعتباره، أردف ذلك سبحانه بالتنبيه على هذه النعمة فقال تبارك وتعالى {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان} وخص من أسمائه الحسنى هذا الاسم إشعاراً برحمته بالكتاب وعظيم إحسانه به {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34] ثم قد تمهد أن سورة القمر إعذار ومن أين للعباد بجميل هذا اللطف وعظيم هذا الحلم حتى يرادوا إلى بسط الدلالات وإيضاح البينات إن تعذر إليهم زيادة في البلاغ، فأنبأ تعالى أن هذا رحمة فقال {الرحمن علم القرآن} ثم إذا تأملت سورة القمر وجدت خطابها وإعذارها خاصاً ببني آدم بل بمشركي العرب منهم فقط، فاتبعت سورة القمر بسورة الرحمن تنبيهاً للثقلين وإعذاراً إليهم وتقريراً للجنسين على ما أودع سبحانه في العالم من العجائب والبراهين الساطعة فتكرر فيها التقرير والتنبيه بقوله تعالى: {فبأيّ آلاء ربكما تكذبان} خطاباً للجنسين وإعذاراً للثقلين فبان اتصالها بسورة القمر أشد البيان- انتهى.
ولما كان كأنه قيل: كيف علمه وهو صفة من صفاته ولمن علمه، قال مستأنفاً أو معللاً: {خلق الإنسان} أي قدره وأوجده على هذا الشكل المعروف والتركيب الموصوف منفصلاً عن جميع الجمادات وأصله منها ثم عن سائر الناميات ثم عن غيره من الحيوانات، وجعله أصنافاً، وفصل بين كل قوم بلسانهم عمن عداهم وخلقه لهم دليل على خلقه لكل شيء موجود {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49] والإنسان وإن كان اسم جنس لكن أحقهم بالإرادة بهذا أولهم وهو آدم عليه السلام، وإرادته- كما قال ابن عباس رضي الله عنهما- لا تمنع إرادة الجنس من حيث هو.
ولما كان كأنه قيل: فكان ماذا بخلقه، قال: {علمه البيان} وهو القوة الناطقة، وهي الإدراك للأمور الكلية والجزئية والحكم الحاضر والغائب بقياسه على الحاضرة تارة بالتوسم وأخرى بالحساب ومرة بالعيافة والزجر وطوراً بالنظر في الآفاق وغير ذلك من الأمور مع التمييز بين الحسن والقبيح وغير ذلك ما أدعه سبحانه وتعالى له مع تعبيره عما أدركه بما هو غائب في ضميره وإفهامه للغير تارة بالقول وتارة بالفعل نطقاً وكتابة وإشارة وغيرها، فصار بذلك ذا قدرة على الكمال في نفسه والتكميل لغيره، فهذا تعليم البيان الذي مكن من تعليم القرآن، وهذا وإن كان سبحانه جبلنا عليه وخلقناه به قد صار عندنا مألوفاً ومشهوراً معروفاً، فهو عند غيرنا على غير ذلك مما أوضحه لنا سبحانه نعمة علينا بمحاجته لملائكته الكرام عن نبينا آدم عليه الصلاة والسلام وما أبدى لهم من علمه وبهرهم من رسم كل شيء بمعناه واسمه.
ولما بين سبحانه النعمة في تعليم القرآن الذي هو حياة الأرواح، وبين الطريق فيها، دل على البيان بذكر البينات التي يجمعها أمر ويفرقها آخر، ولها مدخل في حياة الأشباح، وعددها على سبيل الامتنان بياناً لأنها من أكبر النعم فقال في جواب من قال: ما بيانه؟ بادئاً بالكوكب الأعظم الذي هو أعظم نوراً وأكبر جرماً وأعم نفعاً ليكون خضوعه لقبول الآثار أدل على خضوع غيره بياناً لحكمته في تدبيره وقوته في تقديره: {الشمس} وهي آية النهار {والقمر} وهو آية الليل اللذان كان بهما البيان الإبراهيمي، ولعله بدأ لهذه الأمة بغاية بيانه عليه الصلاة والسلام تشريفاً لها بالإشارة إلى علو أفهامها {بحسبان} أي جريهما، يجري كل منهما- مع اشتراكهما في أنهما كوكبان سماويان- بحساب عظيم جداً لا تكاد توصف جلالته في دقته وكثرة سعته وعظم ما يتفرع عليه من المنافع الدينية ولدنيوية، ومن عظم هذا الحساب الذي أفادته صيغة الفعلان أنه على نهج واحد لا يتعداه، تعلم به الأعوام والشهور والأيام والساعات والدقائق والفصول في منازل معلومة، ويعرف موضع كل منهما في الآفاق العلوية وما يحدث له وما يتأثر عنه في الكوائن السفلية بحيث أن به انتظام غالب الأمور السفلية إلى غير ذلك من الأمور التي خلقهما الله عليها ولها، وبين الإنسان وبين كل منهما من المسافات ما لا يعلمه على التحرير إلا العليم الخبير، وهذا على تطاول الأيام والدهور لا يختل ذرة دلالة على أن صانعه قيوم لا يغفل، ثم بعد هذا الحساب المستجد والحساب الأعظم الذي قدر لتكوير الشمس وانكدار القمر دلالة على أنه فاعل بالاختيار مع ما أفاد ذلك من تعاقب الملوين تارة بالاعتدال وتارة بالزيادة وأخرى بالنقص، وغير ذلك من الأمور في لطائف المقدور.
ولما كان سيرهما على هذا المنهاج مع ما لهما فيه من الدؤب فيه بالتغير والتنقل طاعة منهما لمدبرهما ومبدعهما ومسيرهما، وكان خضوعهما- وهما النيران الأعظمان- دالاً على خضوع ما دونهما من الكواكب بطريق الأولى، كان ذكرهما مغنياً عن ذكر ما عداهما بخصوصه، فأتبعهما حضور ما هو للأرض كالكواكب للسماء في الزينة والنفع والضر والصغر والكبر والكثرة والقلة من النبات مقدماً صغاره لعموم نفعه وعظيم وقعه بأن من أكثر الأقوات لجميع الحيوان والملابس من القطن والكتان وغير ذلك من عجيب الشأن، معبراً بما يصلح لبقية الكواكب فقال: {والنجم} أي وجميع الكواكب السماوية وكل نبت ارتفع من الأرض ولا ساق له من النبات الأرضية التي هي أصل قوام الإنسان وسائر الحيوان {والشجر} وكل ما له ساق ويتفكه به أو يقتات {يسجدان} أي يخضعان وينقادان لما يراد منهما ويذلان للانتفاع بهما انقياد الساجد من العقلاء لما أمر به بجريهما لما سخرا له وطاعتهما لما قدرا فيه غير إباء على تجدد الأوقات من نمو في النبات ووقوف واخضرار ويبس وإثمار وعطل، لا يقدر النجم أن يعلو إلى رتبة الشجرة ولا الشجرة أن يسفل إلى وهدة النجم إلى غير ذلك مما صرفنا فيه من سجود الظلال ودوران الجبال والمثال مما يدل على وحدانية الصانع وفعله بالاختيار، ونفي الطبائع، ومن تسيير في الكواكب وتدبير في المنافع في الحر والبرد اللذين جعل سبحانه بهما الاعتدال في النبات من الفواكهة والأقوات، وغير ذلك من وجود الانتفاعات.
ولما كان تغير ما تقدم من الشمس والقمر والنجم والشجر يدل دلالة واضحة على أنه سبحانه هو المؤثر فيه، وكانت السماء والأرض ثابتتين على حالة واحدة، فكان ربما أشكل أمرهما كما ضل فيهما خلق من أهل الوحدة أهل الجمود والاغترار والوقوف مع الشاهد وغيرهم، وكان إذا ثبت أنه تعالى المؤثر فيهما، فلذلك قال مسنداً التأثير فيهما إليه بعد أن أعرى ما قبلهما من مثله لما أغنى عنه من الدلالة بالتغير والسير والتنقل عطفاً على ما تقديره: وهو الذي دبر ذلك: {والسماء رفعها} أي حساً بعد أن كانت ملتصقة بالأرض ففتقها منها وأعلاها عنها بما يشهد لذلك من العقل عند كل من له تأمل في أن كل جسم ثقيل ما رفعه عما تحته إلا رافع، ولا رافع لهذه إلا الله فإنه لا يقدر على التأثير غيره، ولعظمها قدمها على الفعل تنبيهاً على التفكر فيما فيها من جلالة الصنائع وأنواع البدائع، ومعنى بأنه جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومتنزل أوامره ونواهيه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه.
ولما كانت السماء مع علوها الدال على عزة موجدها ومدبرها دالة على عدله باعتدال جميع أحوالها من الحر والبرد والمطر والثلج والندى والطل وغير ذلك في أن كل فصل منها معادل لضده وأنها لا ينزلها سبحانه إلا بقدر معلوم، وإلا لفسدت الأرض كلها، ودلنا على أنه شرع لنا مثل ذلك العدل لتقوم أحوالنا وتصلح أقوالنا وأفعالنا بما قامت به السماوات والأرض فقال: {ووضع الميزان} أي العدل الذي بدر به الخافقين من الموازنة وهي المعادلة لتنتظم أمورنا.
ولما ذكر أولاً القرآن الذي هو ميزان المعلومات، ودل على رحمانيته بأنواع من البيان، الذي رقي به الإنسان فصار أهلاً للفهم، وذكره نعمة الميزان للمحسوسات، أقبل بالخطاب عليه لافتاً له عن أسلوب الغيبة تنشيطاً له إلى ارتقاء مراتب الكمال بحسن الامتثال معللاً فقال: {أن} أي لأن {لا تطغوا} أي لا تتجاوزا الحدود {في الميزان} أي الأشياء الموزونة من الموزونات المعروفة والعلم والعمل المقدر أحدهما بالآخر، وفي مساواة الظاهر والباطن والقول والفعل، فالميزان الثاني عام لميزان المعلومات وميزان المحسوسات.
ولما كان التقدير: فاقتدوا بأفعالي وتخلقوا بكل ما آمر به من أقوالي، عطف عليه قوله: {وأقيموا الوزن} أي جميع الأفعال التي يقاس لها الأشياء {بالقسط}.
ولما كان المراد العدل العظيم، بينه بالتأكيد بعد الأمر بالنهي عن الضد فقال: {ولا تخسروا الميزان} أي توقعوا في شيء من آلة العدل التي يقدر بها الأشياء من الذرع والوزن والعدل والكيل ونحو- نوعاً من أنواع الخسر- بما دل عليه تجريد الفعل فتخسروا ميزان أعمالكم وجزائكم يوم القيامة، وقد علم بتكرير الميزان ما أريد من التأكيد في الأمر به لما له من الضخامة سواء كان بمعنى واحد أو بمعان مختلفة.
ولما ذكر إنعامه الدال على اقتداره برفع السماء، ذكر على ذلك الوجه مقابلها بعد أن وسط بينهما ما قامتا به من العدل تنبيهاً على شدة العناية والاهتمام به فقال: {والأرض} أي ووضع الأرض: ثم فسر ناصبها ليكون كالمذكور مرتين إشارة إلى عظيم تدبيره لشدة ما فيه من الحكم فقال: {وضعها} أي دحاها وبسطها على الماء {للأنام} أي كل من فيه قابلية النوم أو قابلية الونيم وهو الصوت بعد أن وضع لهم الميزان الذي لا تقوم الأرض إلا به.

.تفسير الآيات (11- 19):

{فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19)}
ولما كان في سياق بيان الرحمة بمزيد الإنعام، وكان إقامة البينة أعظم نعمة، وكانت الفواكه ألذ ما يكون، وكانت برقتها وشدة لطافتها منافية للأرض في يبسها وكثافتها، فكان كونها فيها عجباً دالاً على عظيم قدرته، وكان ذكرها يدل على ما تقدمها من النعم من جميع الأقوات، بدأ بها ليصير ما يتقدمها كالمذكور مرتين، فقال مستأنفاً وصفها بما هو أعم: {فيها فاكهة} أي ضروب منها عظيمة جداً يدرك الإنسان بما له من البيان تباينها في الصور والألوان، والطعوم والمنافع- وغير ذلك من بديع الشأن.
ولما كان المراد بتنكيرها تعظيمها، نبه عليه بتعريف بنوع منها، ونوه به لأن فيه مع التفكه التقوت، وهو أكثر ثمار العرب المقصودين بهذا الذكر بالقصد الأول فقال: {والنخل} ودل على تمام القدرة بقوله: {ذات} أي صاحبة {الأكمام} أي أوعية ثمرها، وهو الطلع قبل أن ينفتق بالثمر، وكل نبت يخرج ما هو مكمم فهو ذو كمام، ولكنه مشهور في النخل لشرفه وشهرته عندهم، قال البغوي: وكل ما ستر شيئاً فهو كم وكمة، ومنه كم القميص، وفيه تذكير بثمر الجنة الذي ينفتق عن نباهم، وذكر أصل النخل دون ثمره للتنبيه عن كثرة منافعه من الليف والسعف والجريد والجذوع وغيرها من المنافع التي الثمر منها.
ولما ذكر ما يقتات من الفواكه وهو في غاية الطول، أتبعه الأصل في الاقتيات للناس والبهائم وهو بمكان من القصر، فقال ذاكراً ثمرته لأنها المقصودة بالذات: {والحب} أي من الحنطة وغيرها، ونبه على تمام القدرة بعد تنبيه بتمايز هذه المذكورات مع أن أصل الكل الماء بقوله: {ذو العصف} أي الورق والبقل الذي إذا زال عنه ثقل الحب كان مما تعصفه الرياح التي تطيره، وهو التبن الذي هو من قوت البهائم.
ولما كان الريحان يطلق على كل نبت طيب الرائحة خصوصاً، وعلى كل نبت عموماً، أتبعه به ليعم ويخص جميع ما ذكر من سائر النبات وغيره على وجه مذكر بنعمه بغذاء الأرواح بعد ما ذكر غذاء الأشباح فقال: {والريحان} ولما كان من كفر به سبحانه بإنكاره أو إنكار شيء من صفاته، أو كذب بأحد من رسله قد أنكر نعمه أو نعمة منها فلزمه بانكاره لتلك النعمة إنكار جميع النعم، لأن الرسل داعية إلى الله بالتذكير بنعمه، وكان ما مضى من هذه السورة إلى هنا اثنتي عشرة آية على عدد الكوفي والشامي، عدد فيها أصول نعمه سبحانه على وجه دل بغاية البيان على أن له كل كمال، وكان هذا العدد أول عدد زائد إشارة إلى تزايد النعم لأن كسوره النصف والثلث الربع والسدس تزيد على أصله، وكان قد مضى ذكر الثقلين الجن والإنس في قوله: {الأنام} قال تعالى إشارة إلى أنهم المقصودون بالوعظ، منكراً موبخاً مبكتاً لمن أنكر شيئاً من نعمه أو قال قولاً أو فعل فعلاً يلزم منه إنكار شيء منها مسبباً عما مضى من تعداد هذه النعم المتزايدة التي لا يسوغ إنكارها ولا إنكار شيئ منها فيجب شكرها: {فبأي آلاء} أي نعم عطايا {ربكما} أي المحسن إليكما بما أسدى من المزايا التي أسداها إليكم على وجه الكبرياء والعظمة وهي دائمة لا تنقطع من غير حاجة إلى مكافأة أحد ولا غيرها- أيها الثقلان- المدبر لكما الذي لا مدبر ولا سيد لكما غيره، من آياته وصنائعه وحكمه وحكمته وعزته في خلقه واستسلام الكل له وخضوعهما إليه، فإن كل هذه النعم الكبار آيات دالة عليه وصنائع محكمة وأحكام وحكم ظهرت بها عزته وبانت بها قدرته {تكذبان} فمخاطبته بهذا الثقلين دليل على أن هذه الأشياء تعم على الجن كما أنها تعم على الإنس، وأن لهم من ذلك ما لهم، وذكره لهذه الآية بعد ذكر هذا العدد من الآيات إشارة إلى أن زيادة النعم إلى حد لا يحصى بحيث أن استيفاء عددها لا تحيط به عقول المكلفين لئلا يظنوا أنه لا نعمة غير ما ذكر في هذه السورة، والتعبير عنها بلفظ الآلاء من أجل أنها النعم المخصوصة بالملوك لما لها من اللمعان والصف المميز لها من غيرها ولما لرؤيتها من الخير والدعاء، وهي وإن كانت من الوا فيمكن أخذها من اللؤواء إلى أن الأصل الهمزة واللام، فإذا انضم إليهما لام أخرى أو ألف ازداد المعنى الذي كان ظهوراً لأن الألف غيب الهمزة وباطنها، واللام هي عين ما كان فلم يحصل خروج عن ذلك المعنى، فإذا نظرت إلى الآل كان المعنى أن تلك النعم الكبار الملوكية تظهر للعباد معرفته سبحانه وأنه يؤل إليه كل شيء أولاً من غير نزاع كما أنه كان بكل شيء، وتكل عن نظرها الأبصار النوافذ كما تكل عن رؤية الأشخاص التي يرفعها الآل لأنها تدل عليه سبحانه.
.. نعم عظيمة وإن كانت نقماً لأنه لا نعمة تدل مثل ما دل عليه سبحانه، وكرر هذه الآية في هذه السورة من هنا بعد كل آية إلى آخرها لما تقدم في القمر من أن المنكر إذا تكرر إنكاره جداً بحيث أحرق الأكباد في المجاهرة بالعناد حسن سرد ما أنكره عليه، وكلما ذكر بفرد منه قيل له: لم تنكره؟ سواء أقر به حال التقرير أو استمر على العناد، فالتكرار حينئذ يفيد التعريف بأن إنكاره تجاوز الحد، ولتغاير النعم وتعددها واختلافها حسن تكرير التوقيف عليها واحدة واحدة تنبيهاً على جلالتها، فإن كانت نعمة فالأمر فيها واضح، وإن كانت نقمة فالنعمة دفعها أو تأخير الإيقاع بها، ولما تقدم من أن كل تذكير بما أفاده الله تعالى من النعم بالحواس الخمس مضروبة في الجهات الستّ على أنك إذا اعتبرت نفس الآية وجدتها مشيرة إلى ذلك، فإن كل كلمة منها- إلا الأخيرة في رسم من أثبت ألفها من كتبة المصاحف- خمسة أحرف أن اعتبرت هجاء الأولين والثالثة خمسة في الرسم ستة في الهجاء والنطق، فهي للحواس وللجهات لأن الكل من الرب، والكلمة الأخيرة ستة أحرف إن اعتبرت رسمها في المصاحف التي أسقطت ألفها، فإن في إثباتها وحذفها اختلافاً بين أئمة المصاحف، وهي إشارة إلى الجهات التي يملك الإنسان التصرف فيها، أما الحواس فلا اختيار له فيها، وإن اعتبرت هجاءها بحسب النطق كانت سبعة أحرف إشارة إلى أن النعم أكثر من أن تحصى لما تقدم من أسرار عدد السبعة وإلى أن تكذيب المكلفين متكاثر جداً، فلذلك كان في غاية المناسبة أن تبسط هذه النعم على عدد ضرب الحواس الخمس في الجهات الست، وذلك في الحقيقة فائدة، فإنه من المألوف المعروف والجميل الموصوف أن التكرير عند التكذيب يوجب التكرير عند التقرير، ويبلغ به النهاية في حسن التأثير، وزاد العدد على مسطح الخمس في الست واحد إشارة إلى أن نعم الواحدة لا انقطاع لها، ولذلك فصلت إلى ثمان ذكرت أولاً عقب النعم، فكانت على عدد السبع الذي هو أول عدد تام لأنه جمع الفرد والزوج وزوج الفرد وزوج الزوج، وزاد بواحد إشارة إلى أنه كلما انقضى دور من عدد تام جدير لنعم أخرى فهي لا تتناهى لأن موليها له القدرة الشاملة والعلم التام ورحمته سبقت غضبه، وفي كونها ثمانية إشارة إلى أنها سبب إلى الجنة ذات الأبواب الثمانية إن شكرت، وفي تعقيبها بسبع نارية إشارة إلى أنها سببيتها للنار أقرب لكونها حفت بالشهوات، وفي ذلك إشارة إلى أن من اتقى ما توعد عليه بشكر هذه النعم وقي أبواب النار السبعة، ثم عقبها بثمانية ذكر فيها جنة المقربين إشارة إلى أن من عمل لما وعده كما أمره به الله نال أبواب الجنة الثمانية، وثمانية أخرى عقب الجنة أصحاب اليمين إشارة إلى مثل ذلك والله أعلم، وكان ترتيبها في غاية الحسن، ذكرت النعم أولاً استعطافاً وترغيباً في الشكر ثم الأهوال ترهيباً ودرأ للمفسدة بالعصيان والكفر ثم النعم الباقية لجلب المصالح، وبدأ بأشرفها فذكر الجنة العليا لأن القلب إثر التخويف يكون أنشط والهمم تكون أعلى والعزم يكون أشد، فحينئذ هذه الآية الأولى من الإحدى والثلاثين مشيرة إلى أن نعمة البصر من جهة الأمام، فكأنه قيل: أبنعمة البصر مما يواجهكم أو غيرها تكذبان.
ولما كان قد تقدم في إشارة الخطاب الامتنان بخلق الإنسان، ثم ذكر أصول النعم عليه على وجه بديع الشأن، إلى أن ذكر غذاء روحه: الريحان، أتبع ذلك تفصيلاً لما أجمل فقال: {خلق الإنسان} أي أصل هذا النوع الذي هو من جملة الأنام الذي خلقنا الريحان لهم والغالب عليه الأنس بنفسه وبما ألفه.
ولما كان أغلب عناصره التراب وإن كان من العناصر الأربعة، عبر عن إشارة به إلى مطابقة اسمه- بما فيه مما يقتضي الأنس الذي حاصله الثبات على حالة واحدة- لمسماه الذي أغلبه التراب لنقله وثباته ما لم يحركه محرك، وعبر عن ذلك بما هو في غاية البعد عن قابلية البيان فقال: {من صلصال} أي طين يابس له صوت إذا نقر عليه {كالفخار} أي كالخزف المصنوع المشوي بالنار لأنه أخذه من التراب ثم خلطه بالماء حتى صار طيناً ثم تركه حتى صار حماء مسنوناً مبيناً، ثم صوره كما يصور الإبريق وغيره من الأواني ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة فصار كالخزف الذي إذا نقر عليه صوت صوتاً يعلم منه هل فيه عيب أم لا، كما أن الآدمي بكلامه يعرف حاله وغاية أمره ومآله، فالمذكور هنا غاية تخليقه وهو أنسب بالرحمانية، وفي غيرها تارة مبدؤه وتارة إنشاؤه، فالأرض أمه والماء أبوه ممزوجين بالهواء الحامل للجزء الذي هو من فيح جهنم، فمن التراب جسده ونفسه، ومن الماء روحه وعقله، ومن النار غوايته وحدته، ومن الهواء حركته وتقلبه في محامده ومذامه.
ولما كان الجان الذي شمله أيضاً اسم الأنام مخلوقاً من العناصر الأربعة، وأغلبها في جبلته النار، قال تعالى: {وخلق الجانّ} أي هذا النوع المستتر عن العيون بخلق أبيهم، وهو اسم جمع للجن. ولما كان الجن يطلق على الملائكة لاستتارهم، بين أنهم لم يرادوا به هنا فقال: {من مارج} أي شيء صاف خالص مضطرب شديد الاضطراب جداً والاختلاط، قال البغوي: وهو الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه، وقال القشيري، هو اللهب المختلط بسواد النار- انتهى. ومرجت نارهم- أي اختلطت- ببرد الزمهرير. ولما كان المارج عاماً في النار وغيرها، بينه بقوله: {من نار} هي أغلب من عناصر، فتعين المراد بذكر النار لأن الملائكة عليهم السلام من نور لا من نار، وليس عندهم مروج ولا اضطراب، بل هم في غاية الثبات على الطاعة فيما أمروا به، وقد عرف بهذا كل مضطرب قدره لئلا يتعدى طوره.
ولما كان خلق هذين القبيلين على هذين الوجهين اللذين هما في غاية التنافي مستوراً أحدهما عن الآخر مع منع كل من التسلط على الآخر إلا نادراً، إظهاراً لعظيم قدرته وباهر حكمته من أعظم النعم، قال مسبباً عنه: {فبأيِّ آلاء ربكما} أي النعم الملوكية الناشئة عن مبدعكما ومربيكما وسيدكما {تكذبان} أي بنعمة البصر من جهة الوراء وغيرها من خلقكم على هذا النمط الغريب، وإيداعكم ما أودعكم من القوى، وجعلكم خلاصة مخلوقاته، ومن منع أحد قبيليكم عن الآخر، وتيسيره لكم الأرزاق والمنافع، وحملكم على الحنيفية السمحة، وقدرته على إعادتكم كما قدر على ابتدائكم.
ولما ذكر سبحانه هذين الجنسين اللذين أحدهما ظاهر والآخر مستتر، إرشاداً إلى التأمل فيما فيهما من الدلالة على كمال قدرته، فكانا محتاجين إلى ما هما فيه من المحل، وكان صلاحه مما دبر سبحانه فيه من منازل الشروق الذي هو سبب الأنوار والظهور، والغروب الذي هو منشأ الظلمة والخفاء، أتبعه قوله منبهاً على النظر في بديع صنعه الدال على توحيده: {رب} أي هو خالق ومدير {المشرقين} ومدبرهما على كيفية لا يقدر على شيء منها غيره {ورب المغربين} كذلك، وهذه المشارق والمغارب هي ما للشتاء من البروج، السافلة الجنوبية التي هي سبب الأمطار والثلوج، التي هي سبب الحياة والظهور، حال كون الشمس منحدرة في آفاق السماء، وما للصيف من البروج العالية في جهة الشمال التي هي سبب التهشم والأفول والشمس مصعدة في جو السماء، وما بينهما من الربيع الذي هو للنمو، والخريف الذي هو للذبول، فهي آية الإيجاد والإعدام، فأول المشارق الصيف وقت استواء الليل والنهار عند حلول الشمس بأول البروج الشمالية صاعدة وهو الكبش، يعتدل الزمان حينئذ بقطعها الجنوبية واستقبالها الشمالية، ثم آخر مشارقه إذا كانت الشمس في آخر الشمالية وأول الجنوبية عند حلولها برأس الميزان يعتدل الزمان ثانياً لاستقبالها البروج الجنوبية، ثم بحلولها بآخر القوس ورأس الجدي يكون الانتهاء في قصر الأيام وطول الليالي لتوسطها البروج الجنوبية، ثم بحلولها كذلك عند خروجها من برج التوأمين إلى السرطان من بروج الشمال، وهي آخر درجات الشمس، يكون طول الأيام وقصر الليالي، فيختلف على هذين الفصلين الحر والبرد، وكون الشمس في أول برج الحمل هو بمثابة طلوعها من المشرق في أول كل نهار، وكونها في الاعتدال الثاني عند استقبالها البروج الجنوبية إذا حلت برأس الميزان هو بمثابة غروبها، ثم بكونها في الانتهائين في طول الأيام حين حلولها برج السرطان هو بمنزلة استوائها في الصيف في كبد السماء كما أن حلولها برأس الجدي عند الانتهاء في الشتاء في قصر الأيام وطول الليالي هو بمثابة استوائها فيما يقابل استواءها في الشتاء في كبد السماء في النهار- ذكر ذلك ابن برجان وقال بعد ذلك: سخر سبحانه لعباده جهنم- أي بواسطة الشمس- وهي أعدى عدو لهم، فأخرج لهما بواسطتها الزرع والزيتون والرمان والنخيل والأعناب والجنان المعروشات وغير المعروشات ومن كل الثمرات.
ولما كان في هذا من النعم ما لا يحصى، قال مسبباً: {فبأيَّ آلاء ربكما} الذي دبر لكم هذا التدبير العظيم {تكذبان} أي بنعمة البصر من جهة اليمين أو غيرها من تسخير الشمس والقمر دائبين دائرين لإدارة الزمان وتجديد الأيام، وعدد الشهور والأعوام، واعتدال الهواء واختلاف الأحوال على الوجه الملائم لمصالح الدنيا ومعايشها على منهاج محفوظ وقانون لا يزيغ.
ولما كانت باحة البحر لجري المراكب كساحة السماء لسير الكواكب مع ما اقتضى ذكره من تضمن ذكر المشارق والمغارب للشتاء الحاصل فيه من الأمطار ما لو جرى على القياس لأفاض البحار، فأغرقت البراري والقفار، وعلت على الأمصار وجميع الأقطار، فقال: {مرج} أي أرسل الرحمن {البحرين} أي الملح والعذب فجعلهما مضطربين، من طبعهما الاضطراب، حال كونهما {يلتقيان} أي يتماسان على ظهر الأرض بلا فصل بينهما في رؤية العين وفي باطنها، فجعل الحلو آية دالة على مياه الجنة، والملح آية دالة على بعض شراب أهل النار لا يروي شاربه ولا يغنيه، بل يحرق بطنه ويعييه، أو بحري فارس والروم هما ملتقيان في البحر المحيط لكونهما خليجين منه.